فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}: لما تقدم منهم الدعوى بأنه لن يدخل الجنة إلا من ذكروا، طولبوا بالدليل على صحة دعواهم.
وفي هذا دليل على أن من ادعى نفيًا أو إثباتًا، فلابد له من الدليل.
وتدل الآية على بطلان التقليد، وهو قبول الشيء بغير دليل.
قال الزمخشري: وهذا أهدم شيء لمذهب المقلدين، وإن كل قول لا دليل عليه، فهو باطل.
إن كنتم صادقين فهاتوا برهانكم، أي أوضحوا دعوتكم.
وظاهر الآية أن متعلق الصدق هو دعواهم أنهم مختصون بدخول الجنة.
وقيل: صادقين في إيمانكم.
وقيل: في أمانيكم.
وقيل معنى صادقين: صالحين كما زعمتم، وكل ما أضيف إلى الصلاح والخير أضيف إلى الصدق.
تقول: رجل صدق، وصديق صدق، ودالة صدق، ومنه: {هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم} وقيل: معناه إن كنتم موقنين بما أخذ الله ميثاقه وعهوده، ومنه: {رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه}. اهـ.

.قال الألوسي:

{قُلْ هَاتُواْ برهانكم} أي على ما ادعيتموه من اختصاصكم بدخول الجنة فهو متصل معنى بقوله تعالى: {قَالُواْ لَن يَدْخُلِ} الخ على أنه جواب له لا غير، و{هَاتُواْ} بمعنى أحضروا والهاء أصلية لا بدل من همزة آتوا ولا للتنبيه وهي فعل أمر خلافًا لمن زعم أنها اسم فعل أو صوت بمنزلة ها وفي مجيء الماضي والمضارع والمصدر من هذه المادة خلاف؛ وأثبت أبو حيان هاتي يهاتي مهاتاة والبرهان الدليل على صحة الدعوى، قيل: هو مأخوذ من البره وهو القطع فتكون النون زائدة، وقيل: من البرهنة وهو البيان فتكون النون أصلية لفقدان فعلن ووجود فعلل ويبنى على هذا الاشتقاق الخلاف في برهان إذا سمي به هل ينصرف أولًا؟
{إِن كُنتُمْ صادقين} جواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله ومتعلق الصدق دعواهم السابق لا الإيمان ولا الأماني كما قيل، وأفهم التعليق أنه لابد من البرهان للصادق ليثبت دعواه، وعلل بأن كل قول لا دليل عليه غير ثابت عند الخصم فلا يعتد به، ولذا قيل: من ادعى شيئًا بلا شاهد لابد أن تبطل دعواه، وليس في الآية دليل على منع التقليد فإن دليل المقلد دليله كما لا يخفى، وتفسير الصدق هنا بالصلاح مما لا يدعو إليه سوى فساد الذهن. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {قل هاتوا برهانكم} أمر بأن يجابوا بهذا ولذلك فصله لأنه في سياق المحاورة كما تقدم عند قوله: {قالوا أتجعل فيها} [البقرة: 30] الآية وأتى بإن المفيدة للشك في صدقهم مع القطع بعدم الصدق لاستدراجهم حتى يعلموا أنهم غير صادقين حين يعجزون عن البرهان لأن كل اعتقاد لا يقيم معتقده دليل اعتقاده فهو اعتقاد كاذب لأنه لو كان له دليل لاستطاع التعبير عنه ومن باب أولى لا يكون صادقًا عند من يريد أن يروج عليه اعتقاده. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله جلّ ذكره: {وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}.
كلُّ حِزْبٍ يُمَهِّد الأملَ لنفسه، ويظنُّ النجاة لحاله، ويدعي الوسل من سهمه.
ولكنّ مجرد الحسبان دون تحقق البرهان لا يأتي بحاصل، ولا يجوز بطائل. اهـ.

.من فوائد ابن عطية في الآية:

قال رحمه الله:
وقوله تعالى: {وقالوا لن يدخل الجنة} معناه قال اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا، وقال النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى، فجمع قولهم، ودل تفريق نوعيهم على تفرق قوليهم، وهذا هو الإيجاز واللف، وهود جمع هائد، مثل عائد وعود، ومعناه التائب الراجع، ومثله في الجمع بازل وبزل وحائل وحول وبائر وبور، وقيل هو مصدر يوصف به الواحد والجمع كفطر وعدل ورضا، وقال الفراء، أصله يهودي حذفت ياءاه على غير قياس.
وقرأ أبي بن كعب {إلا من كان يهوديًا}، وكذبهم الله تعالى وجعل قولهم أمنية، وقد قطعوا قبل بقوله: {فتمنوا الموت} [البقرة: 94، الجمعة: 6]، وأمر محمد صلى الله عليه وسلم بدعائهم إلى إظهار البرهان، وقيل: إن الهاء في {هاتوا} أصلية من هاتا يهاتي، وأميت تصريف هذه اللفظة كله إلا الأمر منه وقيل: هي عوض من همزة آتى، وقيل: ها تنبيه، وألزمت همزة آتى الحذف، والبرهان الدليل الذي يوقع اليقين، قال الطبري: طلب الدليل هنا يقضي بإثبات النظر ويرد على من ينفيه، وقول اليهود {لن} نفي حسنت بعده {بلى}، إذ هي رد بالإيجاب في جواب النفي. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (111)}.
بعد أن بين الحق تبارك وتعالى كيف أن كل عمل في منهج الله له أجر، وأجر باق وثابت ومضاعف عند الله ومحفوظ بقدرة الله سبحانه.. أراد أن يرد على ادعاءات اليهود والنصارى الذين يحاولون أن يثيروا اليأس في قلوب المؤمنين بالكذب والإحباط علهم ينصرفون عن الإسلام.. لذلك فقد أبلغنا الله سبحانه بما افتروه. واقرأ قوله تعالى: {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى}.. وفي هذه الآية الكريمة يظهر التناقض بين أقوال اليهود والنصارى.. ولقد أوردنا كيف أن اليهود قد قالوا {لن يدخل الجنة إلا من كان هودا}.. وقالت النصارى: {لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا}.. والله سبحانه وتعالى يفضح التناقض في آية ستأتي في قوله تبارك وتعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} من الآية 113 سورة البقرة.
ومعنى ذلك أنهم تناقضوا في أقوالهم، فقالت النصارى: إنهم سيدخلون الجنة وحدهم، وقالت اليهود القول نفسه. ثم قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا أو نصرانيا.. ثم قالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء. ويقول الناس إذا كنت كذوبا فكن ذكورا؛ ذلك أن الذي يكذب تتناقض أقواله لأنه ينسى مادام قد قال غير الحقيقة، ولذلك تجد أن المحقق أو القاضي يظل يسأل المتهم أسئلة مختلفة.. حتى تتناقض أقواله فيعرف أنه يكذب.. فأنت إذا رويت الواقعة كما حدثت فإنك ترويها مائة مرة دون أي خلاف في التفاصيل. ولكنك إذا كذبت تتناقض مع نفسك.. والله سبحانه وتعالى يقول: {تلك أمانيهم}.. ما هي الأماني؟.. هي أن تعلق نفسك بأمنية وليس لهذه الأمنية سند من الواقع يوصلك إلي تحقيق هذه الأمنية.. ولكن إذا كان التمني قائما على عمل يوصلك إلي تحقيق الأمنية فهذا شيء آخر.
بعض الناس يقول التمني وإن لم يتحقق فإنه يروح عن النفس.. فقد ترتاح النفس عندما تتعلق بأمل كاذب وتعيش أياما في نوع من السعادة وإن كانت سعادة وهمية.. نقول إن الصدمة التي ستلحق بالإنسان بعد ذلك ستدمره.. ولذلك لا يكون في الكذب أبدا راحة.. فأحلام اليقظة لا تتحقق لأنها لا تقوم على أرضية من الواقع وهي لا تعطي الإنسان إلا نوعا من بعد عن الحقيقة.. ولذلك يقول الشاعر:
منى إن تكن حقًا تكن أحسن المنى ** وإلا فقد عشا بها زمنا رغدا

يعني الأماني لو كانت حقيقة أو تستند إلي الحقيقة فإنها احسن الأماني لأنها تعيش معك.. فإن لم تكن حقيقة يقول الشاعر:
فقد عشنا بها زمنا رغدا

أماني من ليل حسان كأنما ** سقتنا بها ليلى على ظمأ بردا

وقوله تعالى: {تلك أمانيهم} تبين لنا أن الأماني هي مطامع الحمقى لأنها لا تتحقق.. والحق سبحانه يقول: {قل هاتوا برهانكم}.. وما هو البرهان؟.. البرهان هو الدليل.. ولا تطلب البرهان إلا من إنسان وقعت معه في جدال واختلفت وجهات النظر بينك وبينه.. ولا تطلب البرهان إلا إذا كنت متأكدًا أن محدثك كاذب.. وأنه لن يجد الدليل على ما يدعيه. هب أن شخصا ادعى أن عليك مالا له.. وطلب منك أن تعيده إليه وأنت لم تأخذ منه مالا.. في هذه الحالة تطلب منه تقديم الدليل.. فالكمبيالة التي كتبتها له أو الشيك أو إيصال الأمانة.. وأضعف الإيمان أن تطلب منه شهودا على أنك أخذت منه المال.. ولكن قبل أن تطالبه بالدليل.. يجب أن تكون واثقا من نفسك وأنه فعلا يكذب وأنك لم تأخذ منه شيئا.
إذن فقوله الحق سبحانه: {هاتوا برهانكم}.. كلام من الله يؤكد أنهم كاذبون.. وأنهم لو أرادوا أن يأتوا بالدليل.. فلن يجدوا في كتب الله ولا في كلام رسله ما يؤكد ما يدعونه، وإن أضافوه يكن هذا افتراء على الله ويكن هناك الدليل الدامغ على أن هذا ليس من كلام الله ولكنه من افتراءاتهم. إذن فليس هناك برهان على ما يقولونه.. ولو كان هناك برهان ولو كان في هذا الكلام ولو جزءا من الحقيقة.. ما كان الله سبحانه وتعالى يطالبهم بالدليل. إذن لا تقول هاتوا برهانكم إلا إذا كنت واثقا أنه لا برهان على ما يقولون؛ لأنك رددت الأمر إليه فيما يدعيه.. وهو يحب أن يثبته ويفعل كل شيء في سبيل الحصول على برهان.. ولا يمكن أن يقول الله: {هاتوا برهانكم}.. إلا وهو سبحانه يعلم أنهم يكذبون.. ولذلك قال: {إن كنتم صادقين}.. أي إن كنتم واثقين من أن ما تقولونه صحيح؛ لأن الله يعرف يقينا أنكم تكذبون. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)}.
أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى} قال: قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديًا. وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيًا {تلك أمانيهم} قال: أماني يتمونها على الله بغير حق {قل هاتوا برهانكم} يعني حجتكم {إن كنتم صادقين} بما تقولون أنها كما تقولون. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله تعالى: {إلاَّ مَن كَانَ هُودًا}.
{من} فاعل بقوله: {يَدْخُلَ} وهو استثناء مفرغ، فإن ما قبل {إلاَّ} مفتقر لما بعدها، والتقدير: لن يدخل الجنّة أحد، وعلى مذهب الفرَّاء يجوز في {مَنْ} وجهان آخران، وهما النَّصْب على الاستثناء والرفع على البدل من {أحد} المحذوف، فإن الفراء رحمه الله تعالى يراعي المحذوف، وهو لو صرّح به لجاز في المستثنى الوجهان المذكوران، فكذلك جاز مع التقدير عنده، وقد تقدّم تحقيق المذهبين.
والجملة من قوله تعالى: {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن} في محلّ نصب بالقولنوحمل أولًا على لفظ {من} فأفرد الضمير في قوله: {كان}، وعلى معناها ثانيًا فجمع في خبرها وهو {هودًا}، وفي مثل هاتين الجملتين خلاف، أعني أن يكون الخبر غير فعل، بل وصفًا يفصل بين مذكره ومؤنثه تاء التأنيث.
فمذهب جمهور البصريين والكوفيين جوازه، ومذهب غيرهم منعه، منهم أبو العَبَّاس، وهم محجوجون بسماعه من العرب كهذه الآية، فإن هودًا جمع هائد على أظهر القولين، نحو: بازل وبُزْل، وعَائد وعُوْد، وحَائِل وحُوْل، وبائِر وبُوْر.
وهائد من الأوصاف، الفارقُ بين مذكَّرها ومؤنثها تاء التأنيث؛ قال الشاعر: المتقارب:
وَأَيْقَظَ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ نِيَامَا

ونايم جمع نائم، وهو كالأول.
وفي هود ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه جمع هائد كما تقدم.
والثاني: أنه مصدر على فُعَل نحو حزن وشرب يوصف به الواحد وغيره نحو: عدل وصوم.
والثالث: وهو قول الفراء أن أصله يهود، فحذفت الياء من أوله، وهذا بعيد.
وأول هنا للتَّفْصيل والتنويع؛ لأنه لما لَفَّ الضمييرَ في قوله تعالى: {وقالوا}: فَصَّل القائلين، وذلك لفهم المعنى، وأمن الإلباس، والتقدير: وقال اليَهُودُ: لن يدخل الجَنَّة إلاَّ من كان هودًا.
وقال الأنصاري: لن يدخل إلاَّ من كان نصارى؛ لأن من المعلوم أنَّ اليهود لا تقول: لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديًا، وكذلك النصارى لا تقول: لا يدخل الجنة إلا من كان نصرانياص.
ونظيره قوله: {وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نصارى} [البقرة: 135] إذ معلوم أن اليهود لا تقول: كونوا نصارى، ولا النَّصارى تقول: كونوا هودًا.
صدرت الجملة بالنفي بلن؛ لأنها تخلص المضارع للاستقبالن ودخول الجنة مستقبل.
وقدمت اليهود على النصارى لَفْظًا لتقدمهم زمانًا.
وقرأ أُبيّ بن كعب {إلاَّ مَنْ كَانَ يَهُودِيًّا أو نَصْرَانِيًّا}.
قوله تعالى: {تِلْكَ أَمَانِيُّهمْ} {تلك} مبتدأ، و{أَمَانِيُّهُمْ} خبره، ولا محلّ لهذه الجملة من الإعراب لكونها وقعت اعتراضًا بين قوله: {وَقَالُوا} وبين قوله تعالى: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ}، فهي اعتراض بين الدعوى ودليلها.
والمشار إليه ب {تلك} فيه ثلاثة احتمالات:
أحدها: أنه المقالة المفهومة من: {قَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الجنة}، أي: تلك المقالة أمانيهم.
فإن قيل: كيف أفرد المبتدأ وجمع الخبر؟
فالجواب: أن تلك كناية عن المَقَالة، والمقالة في الأصل مصدر، والمصدر يقع بلفظ الإفراد للمفرد المثنى والمجموع، فالمراد ب {تِلْكَ} الجمع من حيث المعنى.
وأجاب الزمخشري رحمه الله أن {تِلْكَ} يشار بها إلى الأماني المذكورة، وهي أمنيتهم ألا ينزل على المؤمنين خير من ربهم، وأمنيتهم أن يردوهم كفارًا أي ألاَّ يدخل الجنة غيرهم.
قال أبو حيان رحمه الله تعالى: وهذا ليس بظاهر؛ لأن كل جملة ذكر فيها ودّهم لشيء قد كملت وانفصلت، وانفصلت، واستقلت بالنزول، فيبعد أن يشار إليها.
وأجاب الزمخشري أيضًا أن يكون على حذف مضاف أي: أمثال تلك الأمنية أمانيهم، يريد أن أمانيهم جميعًا في البُطْلاَن مثل أمنيتهم هذه يعني أنه أشير بها إلى واحد.
قال أبو حيان: وفيه قلب الوَضْع، إذ الأصل أن يكون {تِلْك} مبتدأ، و{أَمَانِيُّهُمْ} خبر، فقلب هذا الوضع، إذ قال: إن أمانيهم في البطلان مثل أمنتيهم هذه، وفيه أنه متى كان الخبر مشبهًا به المبتدأ، فلا يتقدم الخبر نحو: زيد زهير، فإن تقدم كان ذلك من عكس التشبيه كقولك: الأسد زيد شجاعة قال عليه الصلاة والسلام: «العَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللهِ تَعَالَى» وقال علي رضي الله عنه: لا تتكل على المُنَى، فإنها تضيع المتكل.
قوله: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} هذه الجملة في محلّ نصب بالقول.
واختلف في هات على ثلاثة أقوال:
أصحها: أنه فعل، وهذا هول صحيح لا تَّصَاله بالضمائر المرفوعة البارزة نحو: هاتوا، هاتي، هاتيا، هاتين.
الثاني: أنه اسم فعل بمعنى أحضر.
الثالث: وبه قال الزمخشري: أنه اسم صوت بمعنى ها التي بمعنى: رَامى يُرَامي مُرَامَاة، فوزنه فاعل فتقول: هات يا زيد، وهاتي يا هند، وهاتوا وهاتين يا هندات، كما تقول: رَام رَامِي رَامِيا رَامُوا رَامِينَ.
وزعم ابن عطية رحمه الله أن تصريفه مُهْجُور لا يقال فيه إلاّ الأمر، وليس كذلك.
الثاني: أن الهاء بدل من الهمزة، وأن الأصل آتى وزنه: أفعل مثل أكرم.
وهذا ليس بجيد لوجهين:
أحدهما: أن آتى يتعدى لاثنين، وهاتي يتعدى لواحد فقط.
وثانيهما: أنه كان ينبغي أن تعود الألف المبدلة من الهمزة إلى أصلها الزوال موجب قلبها، وهو الهمزة الأولى، ولم يسمع ذلك.
الثالث: أن هذه ها التي للتنبيه دخلت على أتى ولزمتها، وحذفت همزة أتى لزومًا، وهذا مردود، فإن معنى هات أحضر كذا، ومعني ائت: احضر أنت، فاختلاف المعنى يدلّ على اختلاف المادة.
فتحصل في {هَاتُوا} سعبة أقوال:
فعل، أو اسم فعل، أو اسم صوت، والفعل هل ينصرف أو لا ينصرف؟ وهل هاؤه أصلية، أو بدل من همزة، أو هي هاء التنبيه زيدت وحذفت همزته؟
وأصل {هاتو}: هاتيوا، فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت، فالتقى سكنان فحذف أولهما، وضم ما قبله لمُجَانسة الواو فصار هاتوا.
قوله تعالى: {بُرْهَانكُمْ} مفعول به.
قال القرطبي رحمه الله تعالى: البرهان الدَّليل الذي يوقع اليقين، وجمعه بَرَاهين، مثل قُرْبَان وقرابين، وسُلْطَان وسلآطين.
واختلفوا فيه على قولين:
أحدهما: أنه مشتقّ من البُرْهِ وهو القطع، وذلك أنه دليل يفيد العلم القطعي، ومنه: بُرْهَة الزمان أي: القطعه منه، فوزنه فُعْلاَن.
والثاني: أن نونه أصلية لثبوتها في بَرْهَنَ يُبَرْهِنُ بَرْهَنَةً، والبَرْهَنَةُ البَيَانُ، فبرهن فَعْلَلَ لا فَعْلَنَ، لأن فَعْلَنَ غير موجود في أبنيتهمن فوزنه فَعْلالَ؛ وعلى هذين القولين يترتب الخلاف في صَرْف بُرْهَان وعدمه، إذا سُمِّيَ به.
ودلَّت الآية على أن الدَّليلَ على المدَّعِي، سواءٌ ادَّعَى نفيًا، أو إثباتًا، ودلَّتْ على بطلان القول بالتقليد؛ قال الشاعر: السريع:
مَنِ ادَّعَى شَيْئًا بِلاَ شَاهِدِهْ ** لابد أَنْ تَبْطُلَ دَعْوَاهُ

وقوله تعالى: {إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} يعنى: في إيمانمم أي في قولكم: إنكم تدخلون الجنة، أي: بينوا ما قلتم ببرهان. اهـ.